تقديم الحكومة الإسبانية للمغرب على الجزائر في أولويات سياستها الخارجية: الأمن قبل الطاقة

فريق التحليل السياسي، موقع HispArabia، 24 فبراير 2024م

جاءت زيارة رئيس الحكومة الإسبانية إلى المغرب، بعد أيام قليلة من إلغاء وزير الخارجية الاسباني لزيارته إلى الجزائر، لتؤكد على أن حكومة الحزب الاشتراكي المركزية في مملكة إسبانيا تمنح أولوية لتعزيز الشراكة الاستراتيجية والتعاون الثنائي مع المغرب، لاسيما وأن الاستمرار في الحفاظ على حالة الانسجام والهدوء في علاقات التعاون والتفاهم الثنائي بين المملكتين قد اتضح تأثيره الايجابي في التحسن الواضح في التعاون الأمني المغربي-الإسباني، خاصة فيما يتعلق بتحسين إدارة ملف الهجرة غير النظامية ومكافحة عصابات الاتجار بالبشر وتفكيك الخلايا الإرهابية والاجرامية، كذلك في تحسن علاقات التعاون التجاري ووصولها إلى أفضل مستوياتها، وهي ملفات تمس جميعا الأمن القومي الإسباني بشكل مباشر.

أولا: زيارة هامة تؤكد بأن الأولوية للمغرب

ارتكزت أهمية زيارة رئيس الحكومة الإسبانية إلى المغرب في أنها هي الأولى لرئيس الحكومة الإسبانية منذ تشكيل الحكومة المركزية الجديدة في إسبانيا بقيادة الحزب الاشتراكي PSOE، حيث يهدف بذلك الحزب الاشتراكي الحاكم لنقل إلى الجانب المغربي بأنه سيحافظ على استمرارية حالة التفاهم والتقارب السياسي مع المغرب، كذلك مواصلة تعزيز التعاون في كافة المجالات بين البلدين، لاسيما التعاون الأمني في تحسين إدارة ملف الهجرة غير نظامية ومكافحة الإرهاب، خاصة وأن هذه الملفات تمثل أولوية لدى السياسة الخارجية وتمس الأمن القومي الإسباني بشكل مباشر.

كما استهدفت هذه الزيارة نقل رسالة إلى السلطات المغربية بأن بوادر انفراج الأزمة الدبلوماسية بين إسبانيا والجزائر، وموافقة الحكومة الإسبانية على تعيين سفير جديد للأخيرة في إسبانيا، لن يؤثر على تلك التوجهات التي يتبناها الحزب الاشتراكي الحاكم في إسبانيا من دعم التعاون مع المغرب، ومساندة الأخيرة في موقفها من قضية الصحراء الغربية، لاسيما في ظل تواجد قيادات منتمية لحركة اتحاد قوى اليسار Sumar داخل تشكيل الحكومة الإسبانية الحالية، يتبنون مواقف سياسية مغايرة حيال هذه القضية تحديدا، ويهاجمون بشكل مُستمر التوجهات السياسية للمغرب في التعامل مع القضية المذكورة.

ثانيا: بحث تطورات التعاون الثنائي والشراكة الاستراتيجية مع السلطات المغربية

تُعد هذه الزيارة هي الخامسة التي يقوم بها رئيس حكومة إسبانيا إلى المغرب، وتأتي في توقيت وصفته مصادر بالحكومتين الاسبانية والمغربية بأنه الأفضل في تاريخ العلاقات الثنائية مع المغرب، التي تُعد بمثابة دولة جوار صديقة وشريك استراتيجي للمملكة الإسبانية. واتضح خلال هذه الزيارة حرص حكومة إسبانيا الحالية في المضي قدما في اتجاه خارطة الطريق التي اتفقت بشأنها حكومتا إسبانيا والمغرب في عام 2022م، والتي تهدف لتعزيز المشاورات السياسية بين البلدين والوصول بها إلى أعلى المستويات، وهو ما اتضح في الاجتماع رفيع المستوى الذي عُقد مؤخرا في عام 2023م في الرباط، وكان يُمثل حدثا تاريخيا شهد توقيع 24 اتفاقية ثنائية، وإصدار بيان مُشترك يُحدد شكل وطبيعة العلاقات الثنائية بين كل من إسبانيا والمغرب.

اتضحت كذلك إشادة الحكومة الإسبانية بالتطور الإيجابي الذي تشهده علاقات التعاون بين البلدين، وهو ما انعكس في زيادة الاستثمارات والتبادل التجاري، ليبلغ قيمة إجمالية وصلت ولأول مرة إلى 20 مليار يورو خلال عام 2022م. وهو ما يؤكد على أن إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب، الأمر الذي اتضح في مشاركة عدد كبير من الشركات الإسبانية في تنفيذ مشروعات ضخمة داخل المغرب، وتحديدا في مشروعات البنية التحتية للنقل والمواصلات، والطاقات المُتجددة والموارد المائية.
يُذكر بأن كل من إسبانيا والمغرب قد نجحا في بناء تعاون مثالي فيما يتعلق بتحسين إدارة الهجرة غير النظامية، من خلال وضع برامج رائدة في مجال التعاون الأمني لمكافحة هذه الظاهرة، كذلك في مكافحة الإرهاب والاتجار في البشر وتهريب المخدرات. كما تحرص كل من الحكومتين الاسبانية والمغربية على تعزيز التعاون بين البلدين في إدارة المعابر الحدودية والجمركية، والتعاون في إدارة الجمارك في كل من المدينتين الحدوديتين سبتة ومليلية، بهدف تحسين إدارة حركة التجارة والأفراد بين البلدين وجعلها أكثر نظاما وشفافية.

ثالثا: تفاهم وشراكة تخدم مصالح الطرفين

أسهمت علاقات التعاون الثنائي بين المملكتين في تراجع نزوح المهاجرين غير الشرعيين نحو الحدود مع إسبانيا.

كما أن المغرب أصبحت شريكا استراتيجيا لإسبانيا في مكافحة نشاط عصابات الاتجار بالبشر.

وحققت خارطة الطريق التي وضعتها الحكومة الاسبانية بقيادة الحزب الاشتراكي فيما يخص التعاون مع المغرب نجاحا ملموسا منذ شهر مارس من عام 2022م، وهو ما دفع حكومة إسبانيا لمواصلة العمل في نفس هذا الاتجاه الذي يتضمن التزامات من الطرفين على المدى الطويل، أسهمت في التراجع الواضح في توافد المهاجرين غير النظاميين نحو الأراضي الاسبانية – مقارنة بكل من إيطاليا أو اليونان-، فيما تضاعفت نسبة التبادل التجاري بين البلدين خلال الأشهر الماضية، فضلا عن نجاح التعاون الثنائي في مكافحة الارهاب ونشاط العصابات الاجرامية.

تعتبر الحكومة الإسبانية الحالية بأنه ليس أمامها بدائل أخرى سوى الذهاب إلى توطيد علاقات التعاون السياسي والتجاري والاقتصادي والأمني مع دولة تتقاسم معها حدود برية وهي المغرب، خاصة وأن ذلك كان له مردود إيجابي في تراجع وبنسبة وصلت إلى 80% في توافد المهاجرين غير النظاميين القادمين من القارة الإفريقية نحو الأراضي الاسبانية، كما أسهم هذا التعاون الثنائي في تعزيز تواجد الشركات الاسبانية التي تُصدر منتجاتها إلى المغرب ويصل عددها إلى 6 آلاف شركة، وتحسين إدارة النقاط الحدودية بين البلدين في كل من مدينتي سبتة ومليلية، ومكافحة عصابات الاتجار بالبشر.

كما نجحت الحكومة الإسبانية في إحراز تقدم بشكل كبير فيما يتعلق بعلاقات التعاون الثنائي بين البلدين، وحصلت على تعهدات من الجانب المغربي بتجنب أي اجراء من شأنه المساس بمحيط سيادة أي من البلدين، وتغليب دائما الحوار وعدم اللجوء إلى فرض الأمر الواقع في إطار شكل العلاقات الجديدة بينهما.

كما اتفقت الحكومتان على الاحترام المتبادل، والشفافية والتواصل الدائم، والتطبيق الكامل لما جاء في تلك الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية الموقعة بين البلدين. فيما أكدت حكومة إسبانيا بأنها تتأهب هي ونظيرتها المغربية لتحديث معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون الثنائي، مؤكدة على أنها تهتم بعقد شراكة استراتيجية أكثر تقدما لتطوير مشروعات الاستثمار التي تتزامن من عملية التنمية التي تشهدها المغرب.

تمكنت كذلك الحكومة الإسبانية خلال الأشهر الماضية من توطيد الشراكة الاقتصادية الثنائية بفتح الأبواب أمام خطة استثمارات تنموية تملكها المغرب بقيمة 45 مليار يورو، في قطاعات تملك فيها الشركات الاسبانية خبرات كبيرة مثل قطاع مياه الصرف الصحي أو الخطوط الحديدية للقطارات.

وتم التوقيع على 20 اتفاقية في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، والاتجار بالبشر، ومكافحة الارهاب، ودعم اللغة الاسبانية في أكثر من 100 مركز تعليمي في المغرب، إلى جانب اتفاقيات اقتصادية وتجارية أخرى.

وفيما يتعلق بإعادة فتح المعابر الجمركية في مديني سبتة ومليلية الحدوديتين، أكدت حكومتا البلدين بأن هناك اتفاق بين الطرفين على إعادة الفتح المنظم والتدريجي لهذه المعابر.

وأبرزت الحكومة الاسبانية بأن التعاون مع المغرب قد أسهم وبشكل ملحوظ في تراجع نزوح المهاجرين غير الشرعيين نحو إقليم الأندلس بنسبة 69%، وإقليم جزر الكناري بنسبة 82% خلال شهر يناير الماضي.

إلى جانب بلوغ الصادرات الاسبانية لصالح المغرب معدلات قياسية. وأشارت مصادر بالحكومة الإسبانية إلى أن 55,4% من إجمالي الصادرات الاسبانية إلى دول قارة إفريقيا في عام 2022م قد ذهبت لصالح المغرب بقيمة 9 مليار و870 مليون يورو، مقابل وصول الصادرات المغربية إلى إسبانيا خلال نفس العام إلى 7 مليار و271 مليون يورو.

وأضافت بأن هناك 17.600 شركة اسبانية تصدر منتجاتها إلى المغرب، لتصبح إسبانيا ثالث أكبر مستثمر داخل المغرب.

ويستمر التعاون الاسباني- المغربي في النمو على الرغم من ضغوط حركة اتحاد قوى اليسار Sumar من داخل الحكومة المركزية في إسبانيا، لاسيما وأن هذه الحركة قد طالبت في وقت سابق بأنه يتوجب على إسبانيا أن تستخدم كافة قنوات النفوذ والتأثير التي تمتلكها على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف داخل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أو الاتحاد الافريقي من أجل ممارسة ضغطا إيجابيا على المغرب يهدف لحث الأخيرة على التفاوض مع جبهة البوليساريو من أجل حل الصراع في منطقة الصحراء الغربية، واحترام حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. وأضافت بأن أي حل دائم وواقعي للصراع يجب أن يمر من خلال التفاوض مع جبهة البوليساريو، وأنه على الحكومة الاسبانية أن تتوقف عن دعم ادراج أراضي الصحراء الغربية ضمن اتفاقيات التعاون الثنائي بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، وهي الاتفاقيات التي أصدرت محكمة العدل الأوروبية أحكاما عديدة بعدم صلاحيتها.

رابعا: استمرار الشد والجذب مع الجزائر

وفي مقابل هذا التعاون المُتطور مع المغرب، تستمر حالة الشد والجذب الدبلوماسي بين كل من الحكومتين الاسبانية والجزائرية، حيث كشفت صحف ووسائل إعلام محلية في مملكة إسبانيا بأن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، قد رفض الاجتماع مع وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، الذي كان يستعد للقيام بزيارة رسمية إلى الجزائر يوم الاثنين الموافق 12 فبراير 2024م، وهو ما دفع المسؤول الاسباني لإرجاء هذه الزيارة إلى موعد آخر.

وأشارت مصادر بالخارجية الاسبانية بأن تأجيل الزيارة يرجع لأسباب تتعلق بالأجندة الجزائرية، وأنه كان من المُنتظر أن يلتقي وزير الخارجية الاسباني بمستثمرين ورجال أعمال إسبان في الجزائر، لاسيما بعدما تأثر سلبا التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين في الآونة الأخيرة، إثر تعطيل السلطات الجزائرية العمل بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار مع إسبانيا، على خلفية موقف الحكومة الاسبانية الحالية الداعم لخطة الحكم الذاتي المغربية في منطقة الصحراء الغربية، وهو ما أثار استياء السلطات الجزائرية التي يبدو وأنها تسعى إلى مواصلة التلويح برفضها لهذا الموقف الإسباني.

ويتضح مما سبق بأن جميع الشواهد تشير إلى أن تمسك الحكومة الاسبانية الحالية بموقفها السياسي حيال خطة الحكم الذاتي المغربية في منطقة الصحراء الغربية لايزال يثير استياء السلطات الجزائرية التي يبدو وأنها تسعى إلى مواصلة التأكيد على رفضها لهذا الموقف الذي يتبناه الحزب الاشتراكي الحاكم في إسبانيا، وأن إعادة السفير الجزائري إلى إسبانيا لا تعني انفراج الأزمة الدبلوماسية والسياسية بين الدولتين، وإنما كان الهدف منه عدم تأثر حركة التجارة والاستثمار والتعاون الاقتصادي بين البلدين.

تجدر الإشارة بأن السلطات الاسبانية ونظيرتها الجزائرية كانتا قد واصلتا خلال الأشهر الماضية مساعيهما لإنهاء التوتر الدبلوماسي بينهما، خاصة بعدما تراجعت الصادرات الاسبانية إلى الجزائر بشكل واضح بعد تعليق العمل باتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين البلدين، حيث أفادت في وقت سابق بيانات صادرة عن وزارة الصناعة والتجارة والسياحة بالحكومة الإسبانية بأن صادرات المنتجات الاسبانية إلى الجزائر قد تراجعت بنسبة 45,9% خلال عام 2022م – مقارنة بالعام السابق 2021م- لتتحول من 1 مليار و888 مليون يورو إلى 1 مليار و21 مليون يورو.

فيما بلغت قيمة هذه الصادرات قيمة 30,2 مليون يورو فقط خلال الربع الأول من العام الماضي 2023م، مقابل 472,9 مليون يورو خلال نفس الفترة من العام السابق 2022م، وهو التراجع بنسبة تصل إلى 93,6%.

خامسا: النتائج

تولي الحكومة الاسبانية اهتماما كبيرا بتعزيز التعاون التجاري الاقتصادي والأمني والتنسيق بين الأجهزة الاستخباراتية مع المغرب، لاسيما وأن ذلك الملف يمس الأمن القومي الاسباني بشكل مباشر، خاصة فيما يتعلق بتحسين الإدارة الثنائية بين البلدين لنزوج المهاجرين غير النظاميين، ومواجهة تسلل العناصر الارهابية ونشاط عصابات تهريب المخدرات والاتجار في البشر.

وتُشير جميع الشواهد إلى أنه على الرغم من وجود بوادر على انفراج الأزمة الدبلوماسية مع الجزائر، إلا أن حكومة إسبانيا الحالية ستواصل تجنب أي مواقف أو توجهات من شأنها تعكير صفو حالة التفاهم والتعاون مع الإدارة السياسية في المغرب، في ظل وجود وزراء بالحكومة ضد هذا التوجه.